«الفاشر تحت الحصار».. تجويع ممنهج وصمت دولي يكشفان أبعاداً جديدة لمأساة دارفور
«الفاشر تحت الحصار».. تجويع ممنهج وصمت دولي يكشفان أبعاداً جديدة لمأساة دارفور
في ظل حرب مستعرة اندلعت في أبريل 2023 بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، تعيش مدينة الفاشر، عاصمة ولاية شمال دارفور، وضعاً مأساوياً يتسم بالتجويع، وسقوط الضحايا، وانهيار البنية التحتية، بما في ذلك مراكز الصحة والإيواء، وسط استغاثات ومناشدات إنسانية لا تجد صدى على أرض الواقع من المجتمع الدولي.
وبحسب حقوقيين سودانيين تحدثوا إلى "جسور بوست"، تواجه الفاشر كارثة إنسانية تتجاوز ما شهدته دارفور في 2003، في ظل صمت دولي مثير للدهشة والاستنكار.
وأكد الحقوقيون أن المدينة تعاني من حصار خانق وتجويع ممنهج، وسط دعوات متزايدة لتفعيل الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة لضمان تدخل دولي عاجل لحماية المدنيين المحاصرين منذ أكثر من عام.
ومنذ 15 أبريل 2023، يشهد السودان صراعاً دامياً بين الجيش بقيادة عبد الفتاح البرهان، وقوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو "حميدتي"، أسفر عن مقتل وإصابة عشرات الآلاف، وأدى إلى تدهور إنساني غير مسبوق، وصفته الأمم المتحدة بأنه "أكبر أزمة نزوح وجوع في العالم حاليا".
وأدى الصراع إلى تدمير أجزاء كبيرة من العاصمة الخرطوم، وتصاعد العنف العرقي، وتشريد أكثر من 14 مليون سوداني، لجأ منهم أكثر من مليون شخص إلى دول مجاورة، أبرزها مصر شمالاً وتشاد غرباً، وفق بيانات المنظمة الدولية للهجرة.
الفاشر تحت الحصار
تقع الفاشر في غرب السودان، ويبلغ عدد سكانها نحو 1.5 مليون نسمة، بينهم نحو 800 ألف نازح لجؤوا إليها من مختلف أنحاء ولاية شمال دارفور، عقب نزاع عام 2003. وتضم المدينة ثلاثة معسكرات رئيسية للنازحين.
ومنذ اندلاع الحرب الأخيرة، كانت الفاشر من أبرز ضحايا الصراع، لكن مع حلول أبريل 2024، فرضت قوات الدعم السريع حصاراً خانقاً على المدينة، وسط اشتباكات عنيفة مع الجيش والقوات المتحالفة معه.
وأسفر الحصار عن تدهور كارثي للأوضاع الإنسانية، في ظل نفاد الغذاء والدواء، وغياب أي ممرات آمنة للإغاثة أو الإجلاء.
وتُعد الفاشر آخر معاقل الجيش السوداني في دارفور، ما يجعلها الهدف الأكبر لقوات الدعم السريع التي تسعى لبسط سيطرتها الكاملة على الإقليم.
وتحذّر منظمات دولية من أن سقوط المدينة قد يؤدي إلى مجازر جماعية بحق مئات الآلاف من المدنيين والنازحين المحاصرين داخلها.
السيطرة على مدينة المالحة
في نهاية مارس الماضي، أعلنت قوات الدعم السريع سيطرتها على مدينة المالحة الاستراتيجية، الواقعة على بُعد 200 كلم شمال الفاشر.
وتكمن أهمية المالحة في موقعها اللوجستي القريب من الحدود الليبية، ما يجعلها نقطة عبور رئيسية للوقود والسلاح والإمدادات، ويمنح المهاجمين ميزة ميدانية حاسمة.
وفي تطور آخر، دعا "جيش تحرير السودان"، المتحالف مع قوات الدعم السريع، سكان الفاشر ونازحي مخيمي أبو شوك وزمزم، إلى مغادرة المدينة والتوجه نحو مناطق سيطرة الحركة، "نظراً لتصاعد العمليات العسكرية وتدهور الأوضاع الإنسانية"، وفق بيان رسمي صدر مؤخراً.
تدهور غير مسبوق
في ظل التصعيد العسكري المتواصل في مدينة الفاشر بولاية شمال دارفور، وصفت المنسقية العامة لمخيمات اللاجئين والنازحين الأوضاع داخل المدينة والمخيمات المحيطة بها بأنها "تدهور كارثي غير مسبوق".
وفي بيان صدر الأحد، أكدت المنسقية أن الحياة توقفت بالكامل، وتوقفت معها المساعدات الإنسانية، بينما خلت الأسواق من المواد الغذائية الأساسية.
وأوضحت الهيئة المستقلة المعنية بشؤون النازحين أن سكان المدينة يواجهون يومياً قصفاً مدفعياً مكثفاً، إلى جانب أصوات مرعبة للطائرات والصواريخ، في ظل انتشار الجوع والأمراض والجفاف بين الأحياء السكنية والمخيمات.
وأشارت إلى أن سعر جالونين من المياه بلغ 1500 جنيه سوداني (نحو 2.5 دولار)، وسط أزمة سيولة خانقة وغياب تام للخدمات الأساسية، في مشهد يختزل انهياراً إنسانياً شاملا.
ووفقاً لتقارير الأمم المتحدة، يعاني نحو مليوني شخص في شمال دارفور من انعدام حاد في الأمن الغذائي، فيما يواجه 320 ألفاً المجاعة بالفعل، خاصة في محيط الفاشر.
وقد أعلنت الأمم المتحدة أواخر عام 2024 رسمياً حالة المجاعة في ثلاثة مخيمات للنازحين قرب المدينة، محذّرة من اتساع نطاق الأزمة لتشمل خمس مناطق إضافية بحلول مايو، من ضمنها مدينة الفاشر نفسها.
تحذيرات واستغاثات
وأطلقت المنسقية العامة لمخيمات النازحين في وقت سابق نداءً إنسانياً عاجلاً حذّرت فيه من "تدهور كارثي غير مسبوق" في الوضع الإنساني بإقليم دارفور، وخاصة في الفاشر ومحيطها، مؤكدة أن الحياة اليومية في المدينة قد شُلّت تماماً، وأن المدنيين يواجهون خطر الموت البطيء في ظل الغياب الكامل للمساعدات.
وقال المتحدث باسم المنسقية، آدم رجال، إن الأسواق باتت خالية من المواد الغذائية، والمساعدات متوقفة كلياً، بينما يعيش السكان في ظل القصف المدفعي المتواصل وأصوات الطائرات، ما فاقم معاناتهم وسط تفشي الجوع والمرض والجفاف، وارتفاع حاد في أسعار السلع الأساسية.
وأكد "رجال" أن غالبية الأسر غير قادرة على مغادرة المدينة بسبب غياب وسائل النقل، موضحاً أن معظم هذه العائلات تضم أطفالاً، ومسنين، وأشخاصاً من ذوي الإعاقة، ما يزيد من هشاشتها في ظل الحرب المتصاعدة.
وطالبت المنسقية جميع أطراف النزاع في الفاشر بإعلان وقف فوري ومؤقت لإطلاق النار، والسماح بدخول المساعدات الإنسانية على وجه السرعة، خاصة للفئات الأكثر تضرراً من النساء، والأطفال، وكبار السن، والمرضى، وذوي الاحتياجات الخاصة.
وحمّلت المنسقية المجتمع الدولي، والأمم المتحدة، ووكالاتها، والاتحاد الأوروبي، والاتحاد الإفريقي، ودول الترويكا، والمملكة المتحدة، والولايات المتحدة، وكافة برلمانات العالم الحر، المسؤولية الأخلاقية والإنسانية تجاه ما يجري، مؤكدة أن الوضع في الفاشر ودارفور تجاوز كل الأزمات السابقة من حيث حجم المعاناة والانتهاكات المستمرة لحقوق الإنسان.
إدانة التصعيد العسكري
وفي مطلع فبراير 2025، أدان مجلس الأمن الدولي بشدة التصعيد العسكري لقوات الدعم السريع على مدينة الفاشر، وطالب بوقف فوري لإطلاق النار بين الأطراف المتحاربة.
كما دعا مجدداً إلى إنهاء الحصار المفروض على المدينة، وهو مطلب سبق أن تضمنه قرار للمجلس عام 2024 دون أن يُترجم إلى نتائج ملموسة.
وأكد مجلس الأمن ضرورة التزام جميع الدول الأعضاء بعدم التدخل في النزاع بطريقة تؤدي إلى تأجيج الصراع، مشدداً على أهمية احترام حظر الأسلحة المفروض على دارفور.
وفي السياق، أدان الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، في يناير الماضي، الهجوم "المروع" الذي استهدف المستشفى الرئيسي في الفاشر، وأسفر عن مقتل 70 شخصاً.
وقال المتحدث باسمه، ستيفان دوغاريك، إن الهجوم فاقم الوضع الصحي المتدهور أصلاً في السودان، مؤكداً أن المستشفى المستهدف كان المنشأة الصحية الوحيدة التي لا تزال تعمل في أكبر مدن دارفور بعد أكثر من 21 شهراً من اندلاع الحرب.
تجاهل دولي
بدورها، أكدت سليمى إسحاق، الحقوقية السودانية ومديرة وحدة مكافحة العنف ضد المرأة (هيئة حكومية)، أن الأوضاع في مدينة الفاشر بلغت مستويات غير مسبوقة من التدهور، ووصفت المشهد بـ"الكارثي جداً"، مشيرة إلى أن قوات الدعم السريع تستخدم التجويع كأداة حرب، عبر منع المساعدات والإعانات، بهدف الضغط على السكان لإجبارهم على مغادرة المدينة، تمهيداً للسيطرة الكاملة عليها.
وأضافت إسحاق في تصريح لـ"جسور بوست": "حتى في حرب دارفور عام 2003، لم نشهد هذا المستوى من التجويع المتعمد. ما يحدث الآن هو تجويع ممنهج يستهدف المدنيين بشكل مباشر"، معربة عن استيائها من تجاهل المجتمع الدولي لما وصفته بـ"الكارثة الإنسانية في الفاشر".
وقالت: "المجتمع الدولي يتعامل ببرود واضح، مدفوعاً بأجندات سياسية لا تضع السودان والسودانيين في أولوياته. هذا الصمت يُفسَّر من قِبل الجناة كضوء أخضر للاستمرار في الانتهاكات، بل ويمنحهم ضماناً للإفلات من العقاب، لو كان سكان الفاشر ضمن أولويات المجتمع الدولي، لما استمر الحصار والتجويع والقتل حتى اليوم".
وضع يفوق الكارثة
من جانبه، اعتبر صالح عثمان، الحقوقي السوداني المتخصص في شؤون النزاعات، أن الوضع الإنساني في الفاشر "يفوق الكارثة".
وقال في تصريح لـ"جسور بوست"، إن المدينة تواجه حصاراً خانقاً امتد لأكثر من عام، مع استهداف مباشر للمدنيين، وتدمير للمرافق العامة كالمستشفيات ومراكز الإيواء، في ظل معاناة قاسية للنازحين الذين يسيرون لمسافات طويلة سيراً على الأقدام وسط مخاطر شديدة وانعدام شبه تام للخدمات الأساسية، ما أدى إلى تسجيل عدد كبير من الوفيات.
وأبدى عثمان استغرابه من صمت المجتمع الدولي، قائلا: "ما يُثير الحيرة أن العالم -وخاصة المؤسسات الحقوقية والدولية كالأمم المتحدة ومجلس الأمن- يرى ما يحدث في الفاشر ويكتفي ببيانات الشجب والإدانة، وهو أمر لا يُنقذ الأرواح".
وشدد الحقوقي البارز في دارفور على أن الحل الوحيد المتبقي يتمثل في تفعيل الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، الذي لا يزال سارياً على إقليم دارفور، مطالباً بتطبيقه فوراً لحماية المدنيين مما وصفه بـ"جرائم حرب".
وأضاف: "الفصل السابع يتيح آليات تدخل متعددة، ليس عسكرياً فقط، بل إنسانياً أيضاً، ويمكنه منع استخدام الطيران الحربي والمسيرات، وحظر دخول الأسلحة، وهي الإجراءات التي من شأنها إنقاذ السكان من الموت البطيء"، مؤكدا أن ما تحتاج إليه الفاشر الآن هو تدخل حاسم، مشابه لما حدث من انتشار قوات يوناميد سابقاً في دارفور.
وأرجع عثمان الصمت الدولي حيال ما يجري إلى "ضعف الإرادة السياسية لدى القوى الكبرى، وتقاطعات مصالحها مع حقوق الشعب السوداني"، معتبراً أن ضعف الأمم المتحدة ومجلس الأمن أفقدهما القدرة على التعامل مع الكوارث المعقدة مثل ما يحدث في الفاشر.
واختتم حديثه، قائلاً: "المشكلة أعمق من مجرد أزمة في دارفور، إنها أزمة نظام دولي بحاجة إلى إصلاحات عاجلة، لكن قبل ذلك، يجب أن تكون الأولوية لإنقاذ ما تبقى من سكان الفاشر، قبل أن تبتلعهم الحرب والجوع والخذلان".